فصل: مسير طغرل ودبيس إلى العراق

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  مقتل حيوس بك والوزير الشهيرمي

ثم إن السلطان بعد وصول حيوس بك بعثه لحرب أخيه طغرل كما قلناه وأقطعه أذربيجان فتنكر له الأمراء وأغروا به السلطان فقتله على باب هرمز في رمضان سنة عشر وأصله تركي من موالي السلطان محمد وكان عادلاً حسن السيرة ولما ولي الموصل والجزيرة وكان الأكراد بتلك الأعمال انتشروا وكثرت قلاعهم وعظم فسادهم فقصدهم وفتح كثيراً من قلاعهم كبلد الهكارية وبلد الزوزن وبلد النكوسة وبلد التخشيبة وهربوا منه في الجبال والشعاب والمضايق وصلحت السابلة وأمن الناس‏.‏وأما الوزير الكمال أبو طالب الشهيرمي فإنه برز مع السلطان دبيس إلى همذان وخرج في موكبه وضاق الطريق فتقدم الموكب بين يديه فوثب عليه باطني وطعنه بسكين فأنفنه واتبعه الغلمان فوثب عليه آخر فجذبه عن سرجه وطعنه طعنات ، ^? وشردهم الناس عنه فوثب آخر فجذبه وذلك لأربع سنين من وزارته‏.‏وكان سيئ السيرة ظلوماً غشوماً كثير المصادرات‏.‏ولما قتل رفع السلطان ما كان أحدث من المكوس‏.‏

  رجوع طغرل إلى طاعة أخيه السلطان محمود

قد ذكرنا عصيان طغرل على أخيه السلطان محمود بالري سنة ثلاث عشرة وأن السلطان محمود سار إليه وكبسه فلحق برجهان‏.‏ثم لحق منها بكنجة وبلاد أران ومعه أتابك كبغري فاشتدت شوكته وقصد التغلب على بلاد أذربيجان وهلك كبغري في شوال سنة خمس عشرة ولحق بأقسنقر الأرمني صاحب مراغة ليقيم له الأتابكية وحرضه على قتال السلطان محمود فسار معه إلى مراغة ومروا بأردبيل فامتنعت عليهم فساروا إلى هرمز‏.‏وجاءهم الخبر هنالك بأن السلطان محمود بعث الأمير حيوس بك إلى أذربيجان وأقطعه البلاد وأنه وصل إلى مراغة في عسكر كثيف فساروا عن هرمز إلى خونج وانتقض عليهم وراسلوا الأمير شيركير الذي كان أتابك طغرل أيام أبيه يستنجد به‏.‏وكان كبغري الأتابك قبض عليه بعد السلطان محمد ثم أطلقه السلطان سنجر وعاد إلى أبهر وزنجان وكانت إقطاعه فأجاب داعيهم وسار أمامهم إلى أبهر ولم يتم أمرهم فراسلوا السلطان في الطاعة وعاد طغرل إلى أخيه وانتظم أمرهم ، ^? وكان وزير السلطان محمود شمس الملك بن نظام الملك وكان حظياً عنده فكثرت سعاية أصحابه فيه‏.‏وكان ابن عمه الشهاب أبو المحاسن وزير السلطان سنجر فتوفي واستوزر سنجر بعده أبا طاهر القمي عدواً لبني نظام الملك فأغرى السلطان سنجر حتى أمر السلطان محمود بنكبته فقبض عليه ودفعه إلى طغرل فحبسه بقلعة جلجلال‏.‏ثم قتله بعد ذلك وكان أخوه نظام الدين أحمد قد استوزره المسترشد وعزل به جلال الدين أبا علي بن صدقة فلما بلغه نكبة شمس الملك ومقتله عزل أخاه نظام الدين وأعاد ابن صدقة إلى وزارته والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

  ظفر السلطان بالكرج

ثم وفد سنة سبع عشرة على السلطان محمود جماعة من أهل دنباوند وشروان يستصرخونه على الكرج ويشكون ما يلقون منهم فسار لصريخهم‏.‏ولما تقارب الفئتان هم السلطان بالرجوع وأشار به وزيره شمس وتطارح عليه أهل شروان فأقام وباتوا على وجل‏.‏ثم وقع الاختلاف بين الكرج وقفجاق واقتتلوا ليلتهم ورحلوا منهزمين وعاد السلطان إلى همذان والله تع إلى أعلم‏.‏

  عزل البرسقي عن شحنة العراق وولاية برتقش الزكوي

كان الخليفة المسترشد قد وقعت بينه وبين دبيس بن صدقة حروب شديدة بنواحي المباركة من أطراف عانة وكان البرسقي معه وانهزم دبيس فيها هزيمة شنيعة كما مر في أخباره وقصد غزنة صريخاً فلم يصرخوه فقصد المنتفق وسار بهم إلى البصرة فدخلوها واستباحوها وقتلوا سلمان نائبها فأرسل الخليفة إلى البرسقي بالنكير على إهمال أمر دبيس حتى فتك في البصرة فسار البرسقي إليه وهرب دبيس فلحق بالإفرنج وجاء معهم لحصار حلب فامتنعت فلحق بطغرل بن السلطان محمد يستحثه لقصد العراق كما مر ذلك في أخبار دبيس‏.‏وبقيت في نفس المسترشد عليه‏.‏ولحق بها أمثالها فتنكر له وبعث إلى السلطان محمود في عزله فعزله وأمره بالعود إلى الموصل لجهاد الإفرنج ووصل نائب برتقش إلى بغداد وأقام بها الشحنة وبعث السلطان ابناً له صغيراً ليكون معه على الموصل وسار البرسقي به ووصل الموصل وقام بولايتها‏.‏بداية أمر بني أقسنقر وولاية عماد الدين زنكي على البصرة كان عماد الدين زنكي في جملة البرسقي ولما أقطعه السلطان واسط بعث عليها زنكي فأقام فيها أياماً‏.‏ثم كان مسير البرسقي إلى البصرة في أتباع دبيس‏.‏فلما هرب دبيس عنها بعث البرسقي إليها عماد الدين زنكي فأقام بحمايتها ودفع العرب عنها‏.‏ثم استدعاه البرسقي عندما سار إلى الموصل فضجر من تلون الأحوال عليه واختار اللحاق بأصفهان فقدم

  استيلاء البرسقي على حلب

لما سار دبيس إلى الإفرنج حرضه على حلب وأن ينوب فيها عنهم ووجدهم قد ملكوا مدينة صور وطمعوا في بلاد المسلمين‏.‏وساروا مع دبيس إلى حلب فحاصروها حتى جهد أهلها الحصار وبها يومئذ تاس بن ‏"‏ ‏"‏ ابن أرتق فاستنجد بالبرسقي صاحب الموصل وشرط عليهم أن يمكنوه من القلعة ويسلموها إلى نوابة‏.‏وسار إلى إنجادهم فأجفل عنهم الإفرنج ودخل إلى حلب فأصلح أمورها‏.‏ثم سار إلى كفر طاب فملكها من الإفرنج‏.‏ثم سار إلى قلعة إعزاز من أعمال حلب وصاحبها جوسكين فحاصرها وسارت إليه عساكر الإفرنج فانهزم وعاد إلى حلب فخلف فيها ابنه مسعوداً وعبر الفرات إلى الموصل‏.‏

  مسير طغرل ودبيس إلى العراق

ولما ارتحل الإفرنج عن حلب فارقهم دبيس ولحق بالملك طغرل فتلقاه بالكرامة والمبرة وأغراه بالعراق وضمن له ملكه فساروا لذلك سنة تسع عشرة وانتهوا إلى دقوقا فكتب مجاهد الدين بهروز من تكريت إلى المسترشد بخبرهم فتجهز للقائهم وأمر برتقش الزكوي أن يتجهز معه خامس صفر وانتهى إلى الخالص وعدل طغرل ودبيس إلى طريق خراسان ثم نزلوا رباط جلولاء‏.‏ونزل الخليفة بالدسكرة في مقدمته الوزير جلال الدين ابن صدقة‏.‏وسار دبيس إلى جسر النهروان لحفظ المقابر وقد كان رأيه مع طغرل أن يسير طغرل إلى بغداد فيملكها وتقدم دبيس في انتظاره فقعد به المرض عن لحاقه وغشيتهم أمطار أثقلتهم عن الحركات‏.‏وجاء دبيس إلى النهروان طريحاً من التعب والبرد والجوع‏.‏واعترضوا ثلاثين حملا للخليفة جاءت من بغداد بالملبوس والمأكول فطعموا وأكلوا وناموا في دفء الشمس وإذا بالمسترشد قد طلع عليهم في عساكره بلغه الخبر بأن دبيساً‏.‏وطغرل خالفوه إلى بغداد فاضطرب عسكره وأجفلوا راجعين إلى بغداد فلقوا في طريقهم دبيساً كما ذكرنا على ديالي غرب النهروان وقف الخليفة عليه فقتل دبيس الأرض واستعطف حتى هم الخليفة بالعفو عنه ثم وصل الوزير ابن صدقة فثناه عن رأيه ووقف دبيس مع برتقش الزكوي يحادثه‏.‏ثم شغل الوزير بمد الجسر للعبور فتسلل دبيس ولحق بطغرل‏.‏وعاد المسترشد إلى بغداد ولحق طغرل ودبيس بهمذان فعاثوا في أعمالها وصادروا أهلها‏.‏وخرج إليهم السلطان محمود فانهزموا بين يديه ولحقوا بالسلطان سنجر بخراسان شاكين من المسترشد وبرتقش الشحنة والله أعلم بغيبه وأحكم‏.‏

  مقتل البرسقي وولاية ابنه عز الدين على الموصل

ثم إن المسترشد تنكر للشحنة برتقش وتهدده فلحق بالسلطان محمود في رجب سنة عشرين فأغراه بالمسترشد وخوفه غائلته وأنه تعود الحروب وركب العيث ويوشك أن يمتنع عنك ويستصعب عليك فاعتزم السلطان على قصد العراق وبعث إليه الخليفة يلاطفه في الرد لغلاء البلاد وخرابها ويؤخره إلى حين صلاحها فصدق عنده حديث الزكوي وسار مجداً فعبر المسترشتد بأهله وولده وأولاد الخلفاء إلى الجانب الغربي في ذي القعدة راحلا عن بغداد والناس باكون لفراقه‏.‏وبلغ ذلك إلى السلطان فشق عليه وأرسل يستعطفه في العودة إلى داره فشرط عليه الرجوع عن العراق في القوت كما شرط أولاً فغضب السلطان وسار نحو بغداد والخليفة بالجانب الغربي ثم أرسل خادمه عفيفاً إلى واسط يمنع عنها نواب السلطان فسار إليه عماد الدين زنكي من البصرة وهزمه وفتك في عسكره قتلا وأسراً‏.‏وجمع المسترشد السفن إليه وسد أبواب قصره ووكل حاجب الباب ابن الصاحب بدار الخلافة‏.‏ووصل السلطان إلى بغداد في العاشر من ذي الحجة ونزل باب الشماسية‏.‏وأرسل المسترشد في العود والصلح وهو يمتنع‏.‏وجرت بين العسكرين مناوشة‏.‏ودخل جماعة من عسكر السلطان إلى دار الخليفة ونهبوا التاج أول المحرم سنة إحدى وعشرين وخمسمائة فضج العامة لذلك ونادوا بالجهاد وخرج المسترشد من سرادقه ينادي بأعلى صوته‏.‏وضربت الطبول ونفخت البوقات ونصب الجسر وعبر الناس دفعة وعسكر السلطان مشتغلون بالنهب في دور الخلافة والأمراء وكان في دار الخلافة ألف رجل كامنون في السرداب فخرجوا عند ذلك ونالوا من عسكر السلطان وأسروا جماعة من أمرائه‏.‏ونهب العامة دور وزير السلطان وأمرائه وحاشيته وقتل منهم خلق‏.‏وعبر المسترشد إلى الجانب الشرقي في ثلاثين ألف مقاتل من أهل بغداد والسواد‏.‏ودفع السلطان وعسكره عن بغداد وحفر عليها الخنادق واعتزموا على كبس السلطان فأخافهم أبو الهيجاء الكردي صاحب إربل ركب للقتال فلحق بالسلطان ووصل عماد الدين زنكي من البصرة في جيش عظيم في البر والبحر أذهل الناس برؤيته فخام المسترشد عن اللقاء‏.‏وتردد الرسل بينهما فأجاب إلى الصلح وعفا السلطان عن أهل بغداد وأقام بها إلى عاشر ربيع الآخر‏.‏وأهدى إليه المسترشد سلاحاً وخيلا وأموالا ورحل إلى همذان‏.‏وولى زنكي بن أقسنقر شحنة بغداد ثقة بكفايته واستقامت أحواله مع الخليفة‏.‏وأشار به أصحابه ورأوا أنه يرفع الخرق ويصلح الأمر فولاه على ذلك مضافاً إلى ما بيده من البصرة وواسط وسار إلى همذان وقبض في طريقه على وزيره أبي القاسم علي بن الناصر الشادي اتهمه بممالأة المسترشد لكثرة سعيه في الصلح فقبض عليه واستدعى شرف الدولة أنو شروان بن خالد من بغداد فلحقه بأصفهان في شعبان واستوزره عشرة أشهر ثم عزله ورجع إلى بغداد وبقي أبو القاسم محبوساً إلى أن جاء السلطان سنجر إلى الري فأطلقه وأعاده إلى وزارة السلطان محمود آخر اثنتين وعشرين‏.‏

  وفاة عز الدين بن البرسقي وولاية عماد الدين زنكي على الموصل وأعمالها

ثم استيلاؤه على حلب ولما استولى عز الدين على الموصل وأعمالها واستفحل أمره طمحت همته إلى الشام فاستأذن السلطان في المسير إليه‏.‏وسار إلى دمشق ومر بالرحبة فحاصرها وملكها‏.‏ثم مات إثر ذلك وهو عليها وافترقت عساكره وشغلوا عن دفنه‏.‏ثم دفن بعد ذلك ورجعت العساكر إلى الموصل وقام بالأمر مملوكه جاولي‏.‏ونصب أخاه الأصغر وأرسل إلى السلطان يطلب تقرير الولاية له‏.‏وكان الرسول في ذلك القاضي بهاء الدين أبو الحسن علي الشهرزوري وصلاح الدين محمد الباغسياني أمير حاجب البرسقي واجتمعا بنصير الدين جعفر مولى عماد الدين زنكي وكان بينه وبين صلاح الدين سر فخوفهما جعفر بن جاولي وحملهما على طلب عماد الدين زنكي وضمن لهما عنه الولايات والإقطاع فأجابوه وجاء بهما إلى الوزير شرف الدين أنو شروان بن خالد فقالا له إن الجزيرة والشام قد تمكن منهما الإفرنج من حدود ماردين إلى عريش وكان البرسقي يكفهم وقد قتل وولده صغير ولا بد للبلد ممن يضطلع بأمرها ويدفع عنها وقد خرجنا عن النصيحة إليكم فبلغ الوزير مقالتهما إلى السلطان فأحضرهما واستشارهما فذكرا جماعة منهم عماد الدين زنكي وبدلا عنه مقرباً إلى خزانة السلطان مالا جزيلا فولاه السلطان لما يعلم من كفايته وولى مكانه شحنة العراق مجاهد الدين بهروز صاحب تكريت وسار عماد الدين زنكي فبدأ بالبواريح وملكها ثم سار إلى الموصل وتلقاه جاولي مطيعاً وعاد إلى الموصل في خدمته فدخلها في رمضان وأقطع جاولي الرحبة وبعثه إليها وولى نصير الدين جعفراً قلعة الموصل وسائر القلاع وجعل صلاح الدين محمد الباغسياني أمير صاحب وولى بهاء الدين الشهرزوري قضاء بلاده جميعاً وزاده أملاكاً وإقطاعاً وشركه في رأيه‏.‏ثم سار إلى جزيرة ابن عمر وقد امتنع بها مماليك البرسقي فجد في قتالهم وكانت دجلة تحول بينه وبين البلد فعبر بعسكره الماء سبحاً واستولى على المسافة التي بين دجلة والبلد وهزم من كان فيها من الحامية حتى أحجزهم بالبلد وضيق حصارهم فاستأمنوا وأمنهم‏.‏ثم سار إلى نصيبين وهي لحسام الدين تمرتاش بن أبي الغازي صاحب ماردين فحاصرها واستنجد حسام الدين ابن عمه ركن الدولة داود بن سكمان بن أرتق صاحب كيفا فأنجده بنفسه وأخذ في جمع العساكر‏.‏وبعث تمرتاش ماردين إلى نصيبين يعرف العساكر بالخبر وأن العساكر واصلة إليهم عن خمسة أيام وكتبه في رقعة وعلقها في جناح طائر فاعترضه عسكر زنجي وصادره وقرأ زنكي الرقعة وعوض الخمسة أيام بعشرين يوماً وأطلق الطائر بها إلى البلد فقرؤوا الكتاب وأسقط في أيديهم واستطالوا العشرين واستأمنوا لعماد الدين زنكي فأمنهم وملك نصيبين وسار عنها إلى سنجار فملكها صلحاً وبعث العساكر إلى الخابور فملكها‏.‏ثم سار إلى حران وخرج إليه أهل البلد بطاعتهم وكانت الرها وسروج والميرة ونواحيها للإفرنج وعليها جرسكين صاحب الرها فكاتب زنكي وهادنه ليتفرغ للجهاد بعد‏.‏ثم عبر الفرات إلى حلب في المحرم سنة اثنتين وعشرين وقد كان عز الدين مسعود بن أقسنقر البرسقي لما سار عنها إلى الموصل بعد قتل أبيه استخلف عليها قرمان من أمرائه‏.‏ثم عزله بآخر اسمه قطلغ أبه وكتب له إلى قرمان فمنعه إلا أن يرى العلامة التي بينه وبين عز الدين بن البرسقي فعاد قطلغ إلى مسعود ليجيء بالعلامة فوجده قد مات بالرحبة فعاد إلى حلب وأطاعه رئيسها فضائل بن بديع والمقدمون بها واستنزلوا قرمان من القلعة على ألف دينار أعطوه إياها وملك قطلغ القلعة منتصف إحدى وعشرين‏.‏ثم ساءت سيرته وظهر ظلمه وجوره‏.‏وكان بالمدينة بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق وكان ملكها قبل وخلع عنها فدعاه الناس إلى البيعة وثاروا بقطلغ فامتنع بالقلعة فحاصروه‏.‏وجاء مهيار صاحب منبج وحسن صاحب مراغة لإصلاح أمرهم فلم يتفق وطمع الإفرنج في ملكها‏.‏وتقدم جوسكين بعسكره إليها فدافعوه بالمال‏.‏ثم وصل صاحب إنطاكية فحاصرهم إلى آخر السنة وهم محاصرون القلعة فلما ملك عماد الدين زنكي الموصل والجزيرة والشام فأطاعوا وسار عبد الجبار وقطلغ إلى عماد الدين بالموصل وأقام أحد الأميرين بحلب حتى بعث عماد الدين زنكي صاحبه صلاح الدين محمد الباغسياني في عسكر فملك القلعة ورتب الأمور وولى عليها‏.‏وجاء عماد الدين بعساكره في أثره وملك في طريقه منبج ومراغة‏.‏ثم دخل حلب وأقطع أعمالها الأجناد والأمراء وقبض على قطلغ أبه وسلمه لابن بديع فكحله فمات‏.‏واستوحش ابن بديع فهرب إلى قلعة جعفر وأقام عماد الدين مكانه في رئاسة حلب أبا الحسن علي بن عبد الرزاق‏.‏

  قدوم السلطان سنجر إلى الري

ثم قدوم السلطان محمود إلى بغداد الموصل طغرل ودبيس إلى السلطان سنجر بخراسان‏.‏حرضه دبيس على العراق والسلطان محمود قد اتفقا على الامتناع منه فسار سنجر وأخبر السلطان محمود باستدعائه فوافاه لأقرب وقت وأمر العساكر بتلقيه وأجلسه معه على التخت‏.‏وأقام السلطان محمود عنده إلى آخر اثنتين وعشرين‏.‏ثم رجع سنجر إلى خراسان بعد أن أوصى محمود بدبيس وأعاده إلى بلده ورجع محمود إلى همذان‏.‏ثم سار إلى العراق وخرج الوزير للقائه ودخل بغداد في تاسوعاء سنة ثلاث وعشرين‏.‏ثم لحقه دبيس بمائة ألف دينار في ولاية الموصل وسمع بذلك زنكي وجاء إلى السلطان وحمل المائة ألف مع هدايا جليلة فخلع عليه وأعاده وسار منتصف السنة عن بغداد إلى همذان بعد أن ولى الحلة مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد‏.‏

  وفاة السلطان محمود وملك ابنه داود

ثم توفي السلطان محمود بهمذان في شوال سنة خمس وعشرين لثلاث عشرة سنة من ملكه بعد أن كان قبض على جماعة من أمرائه وأعيان دولته‏.‏منهم عزيز الدولة أبو نصر أحمد بن حامد المستوفي وأبو شتكين المعروف بشيركين بن حاجب وابنه عمر خافهم الوزير أبو القاسم الشابادي فاغرى بهم السلطان فنكبهم وقتلهم‏.‏ولما توفي اجتمع الوزير أبو القاسم والأتاباك أقسنقر الأحمديلي وبايعوا لابنه داود وخطبوا له في جميع بلاد الجبل وأذربيجان‏.‏ووقعت الفتنة بهمذان وسائر بلاد الجبل‏.‏ثم سكنت وهرب الوزير إلى الري مستجيراً بالسلطان فأمر بها‏.‏

  منازعة السلطان مسعود لداود ابن أخيه واستيلاؤه على السلطان بهمذان

لما هلك السلطان محمود سار أخوه مسعود من جرجان إلى تبريز فملكها فسار داود من همذان في ذي القعدة سنة خمس وعشرين وحاصره بتبريز في محرم سنة ست وعشرين‏.‏ثم اصطلحوا وتأخر داود عن الأمر لعمه مسعود فسار مسعود من تبريز إلى همذان وكاتب عماد الدين زنكي صاحب الموصل يستنجده فوعده بالنصر وأرسل إلى المسترشد في طلب الخطبة ببغداد‏.‏وكان داود قد أرسل في ذلك قبله ورد المسترشد الأمر في الخطبة إلى السلطان سنجر‏.‏ودس إليه أن لا يأذن لواحد منهما وأن تكون الخطبة له فقط‏.‏وحسن موقع ذلك عنده وسار السلطان مسعود إلى بغداد وسبقه إليها أخوه سلجوق شاه مع أتابك قراجا الساقي صاحب فارس وخوزستان ونزل في دار السلطان واستخلفه الخليفة لنفسه‏.‏ولما سار السلطان مسعود أوعز إلى عماد الدين زنكي أن يسير إلى بغداد فسار من الموصل إليها وانتهى السلطان مسعود إلى عباسة الخالص وبرزت إليه عساكر المسترشد وسلجوق شاه‏.‏وسار قراجا الساقي إلى مدافعة زنكي فدافعه على المعشوق فهزمه وأسر كثيراً من أصحابه ومر منهزماً إلى تكريت وبها يومئذ نجم الدين أيوب أبو الأملاك الأيوبية فهيأ له المعابر وعبر دجلة إلى بلاده‏.‏وسار السلطان مسعود من العباسة وقاتلت طلائعه طلائع أخيه سلجوق وبعث سلخوق يستحث قراجا بعد انهزام زنكي فعاد سريعاً‏.‏وتأخر السلطان مسعود بعد هزيمة زنكي وأرسل إلى المسترشد بأن عمه سنجر وصل إلى الري عازماً على بغداد ويشير بمدافعته عن العراق وتكون العراق لوكيل الخليفة‏.‏ثم تراسل القوم واتفقوا على ذلك وتحالفوا عليه وأن يكون مسعود السلطان ولي العهد ودخلوا إلى بغداد فنزل مسعود ديار السلطان وسلجوق دار الشحنة والله سبحانه وتع إلى ولي التوفيق‏.‏هزيمة السلطان محمود وملك طغرل أخيه لما توفي السلطان محمود سار السلطان سنجر من خراسان إلى بلاد الجبال ومع طغرل ابن أخيه محمد وانتهى إلى الري‏.‏ثم سار إلى همذان فسار مسعود لقتاله ومعه قراجا الساقي وسلجوق شاه‏.‏وقد كان الخليفة عزم أن لا يتجهز معهم فأبطأ فبعثوا إليه قراجا فسار إلى خانقين وأقام وقطعت خطبة سنجر من العراق‏.‏وخالفهم إلى بغداد دبيس وزنكي وقد سمى إقطاعه لسنجر الحلة وزنكي ولاه شحنة بغداد فرجع المسترشد إلى بغداد لموافقتهما‏.‏وسار السلطان وأخوه سلجوق شاه للقاء سنجر‏.‏ثم سمعا بكثرة عساكره فتأخرا فسار في طلبهم يوماً وليلة‏.‏ثم تراجعوا عند الدينور‏.‏وكان مسعود يماطل باللقاء انتظاراً للمسترشد فلم يجد بداً من اللقاء فالتقوا على النقيبة وحمل قراجا عليهم وتورط في المعركة وأصيب بجراحات‏.‏ثم التفوا عليه وأسروه وانهزم من أصحاب مسعود قزل وقد كان واطأهم على الهزيمة فانهزم السلطان مسعود عند ذلك منتصف ستة وعشرين وقتل كثير من أكابر الأمراء‏.‏ونزل سنجر في خيامهم وأحضر قراجا فقتله وجيء إليه بالسلطان مسعود فأكرمه وأعاده إلى كنجة وخطب للملك طغرل ابن أخيه في السلطنة وخطب له في جميع البلاد‏.‏واستوزر له أبا القاسم الساباذي وزير السلطان محمود وعاد إلى نيسابور آخر رمضان سنة ست وعشرين وخمسمائة‏.‏

  هزيمة السلطان داود واستيلاء طغرل بن محمد على الملك

لما ولي طغرل همذان وولى عنه السلطان سنجر إلى خراسان وبلغه أن صاحب ما وراء النهر المرخان قد انتقض عليه فسار لإصلاحه وشغل بذلك فقام الملك داود بأذربيجان وبلاد كنجة وطلب الأمر لنفسه‏.‏وجمع العساكر وسار إلى همذان ومعه برتقش الزكوي وأتابك أقسنقر الأحمديلي ومعه طغرل بن برسق ونزل وقد استقر‏.‏ثم اضطرب عسكر داود وأحسوا من برتقش الزكوي بالفشل فنهب التركمان خيامه وهرب أقسنقر أتابك وانهزم في رمضان سنة ست وعشرين‏.‏ثم قدم بغداد في ذي القعدة ومعه أتابك أقسنقر فأكرمه الخليفة وأنزله بدار السلطان‏.‏عود السلطان مسعود إلى الملك وهزيمة طغرل قد تقدم لنا هزيمة السلطان مسعود من عمه سنجر وعوده إلى كنجة وولاية طغرل السلطان ثم محاربة داود ابن أخيه له وانهزام داود ثم رجوع داود إلى بغداد‏.‏فلما بلغ الخبر إلى مسعود جاء إلى بغداد ولقيه داود قريباً منها وترجل له عن فرسه ودخلا بغداد في صفر سنة سبع وعشرين‏.‏ونزل مسعود بدار السلطان وخطب له ولداود بعده وطلبا من السلطان عسكراً ليسير معهما إلى أذربيجان فبعث معهما العساكر إلى أذربيجان ولقيهم أقسنقر الأحمديلي في مراغة بالإقامة والأموال وملك مسعود بلاد أذربيجان وهرب بين يديه من كان بها من الأمراء وامتنعوا بمدينة أذربيجان فحاصرهم بها وملكها عليهم وقتل منهم جماعة وهرب الباقون‏.‏ثم سار إلى همذان لمحاربة أخيه طغرل فهزمه وملك همذان في شعبان من السنة ولحق طغرل بالري وعاد إلى أصفهان‏.‏ثم قتل أقسنقر الأحمديلي بهمذان غيلة ويقال إن السلطان مسعوداً دس عليه من قتله‏.‏ثم سار إلى حصار طغرل بأصفهان ففارقها طغرل إلى فارس وملكها مسعود وسار في أثر طغرل إلى البيضاء فاستأمن إليه بعض أمراء طغرل فأمنه‏.‏وخشي طغرل أن يستأمنوا إليه فقصد الري وقتل في طريقه وزيره أبا القاسم الساباذي في شوال من السنة ومثل به غلمان الأمير شيركين الذي سعى في قتله كما مر‏.‏ثم سار الأمير مسعود يتبعه إلى أن تراجعا ودارت بينهما حرب شديدة وانهزم طغرل وأسر من أمرائه الحاجب تنكي وأتى بقرا وأطلقهما السلطان مسعود وعاد إلى همذان والله تع إلى أعلم ، ^? ولما عاد مسعود من حرب أخيه طغرل بلغه انتقاض داود ابن أخيه محمود بأذربيجان فسار إليه وحاصره بقلعة ‏"‏ ‏"‏ فحصر جمع طغرل العساكر وتغلب على بلاده وسار إليه واستعمل بعض قواده فسار مسعود للقائه ولقيه عند قزوين‏.‏وفارق مسعود الأمراء الذين استمالهم طغرل ولحقوا به فانهزم مسعود في رمضان سنة ثمان وعشرين وبعث إلى المسترشد يستأذنه‏.‏في دخول بغداد فأذن له‏.‏وكان أخوه سلجوق بأصفهان مع نائبه فيها البقش السلاحي‏.‏فلما سمع بانهزامه سبقه إلى بغداد وأنزله المسترشد بدار السلطان وأحسن إليه بالأموال‏.‏ووصل مسعود وأكثر أصحابه رجلا فوسع عليه الخليفة بالإنفاق والمراكب والظهر واللباس والآلة ودخل دار السلطان منتصف شوال وأقام طغرل بهمذان‏.‏

  وفاة طغرل استيلاء مسعود على الملك

ولما وصل مسعود إلى بغداد حمل إليه المسترشد ما يحتاج إليه وأمره المسير إلى همذان لمدافعة طغرل ووعده بالمسير معه بنفسه فتبطأ مسعود عن المسير واتصل جماعة من أمرائه بخدمة الخليفة‏.‏ثم أطلع على مداخلة بعضهم لطغرل فقبض عليه ونهب ماله وارتاب الآخرون فهربوا عن السلطان مسعود‏.‏وبعث المسترشد في إعادتهم إليه فدافعه ووقعت لذلك بينهما وحشة فقعد المسترشد عن نصره بنفسه‏.‏وبينما هم في ذلك وصل الخبر بوفاة أخيه طغرل في المحرم سنة تسع وعشرين فسار مسعود إلى همذان واستوزر شرف الدين أنو شروان بن خالد حمله من بغداد وأقبلت إليه العساكر فاستولى على همذان وبلاد الجبل‏.‏

  فتنة المسترشد مع السلطان مسعود ومقتله وخلافة ابنه الراشد

قد تقدم لنا أن الوحشة وقعت عندما كان ببغداد بسبب أمرائه الذين اتصلوا بخدمة المسترشد ثم هربوا عنه إلى السلطان مسعود فلما سار السلطان مسعود إلى همذان بعد أخيه طغرل وملكها استوحش منه جماعة من أعيان أمرائه منهم برتقش وقزل وقرا سنقر الخمار تكين والي همذان وعبد الرحمن بن طغرلبك ودبيس بن صدقة‏.‏وساروا إلى خوزستان ووافقهم صاحبها برسق بن برسق واستأمنوا إلى الخليفة فارتاب من دبيس وبعث إلى الآخرين بالأمان مع سديد الدولة بن الأنباري‏.‏وارتاب دبيس منهم أن يقبضوا عليه فرجع إلى السلطان مسعود وسار الآخرون إلى بغداد فاستحثوا المسترشد للمسير إلى قتال مسعود فأجابهم وبالغ في تكرمتهم‏.‏وبرز آخر رجب من سنة تسع وعشرين وهرب صاحب البصرة إليها وبعث إليه بالأمان فأبى فتكاسل عن المسير فاستحثوه وسهلوا له الأمر فسار في شعبان‏.‏ولحق به برسق بن برسق وبلغ عدة عسكره سبعة آلاف وتخلف بالعراق مع خادمه إقبال ثلاثة آلاف‏.‏وكاتبه أصحاب الأطراف بالطاعة وأبطأ في مسيره فاستعجلهم مسعود وزحفوا إليه فكان عسكره خمسة عشر ألفاً‏.‏وتسلل عن المسترشد جماعة من عسكره وأرسل إليه داود بن محمود من أذربيجان يشير بقصد الدينور والمقام بها حتى يصل في عسكره فأبى واستمر في مسيره‏.‏وبعث زنكي من الموصل عسكرا فلم يصل حتى تواقعوا‏.‏وسار السلطان محمود إليهم مجداً فوافاهم عاشر رمضان ومالت ميسرة المسترشد إليه وانهزمت ميمنته وهو ثابت لم يتحرك حتى أخذ أسيراً ومعه الوزير والقاضي وصاحب المحرر وابن الأنباري والخطباء والفقهاء والشهود فأنزل في خيمة ونهب مخيمه وحمل الجماعة أصحابه إلى قلعة ترجمعان‏.‏ورجع بقية الناس إلى بغداد‏.‏ورجع السلطان إلى همذان وبعث الأمير بك أبه إلى بغداد شحنة فوصلها سلخ رمضان ومعه عميد وقبضوا أملاك المسترشد وغلاتها وكانت بينهم وبين العامة فتنة قتل فيها خلق من العامة‏.‏وسار السلطان في شوال إلى مراغة وقد ترددت الرسل بينهما في الصلح على مال يؤديه المسترشد وأن لا يجمع العساكر ولا يخرج من داره لحرب ما عاش وأجابه السلطان وأذن له في الركوب‏.‏وحمل الغاشية وفارق المسترشد بعض الموكلين به فهجم عليه جماعة من الباطنية فألحموه جراحاً وقتلوه ومثلوا به جدعاً وصلباً وتركوه سليباً في نفر من أصحابه قتلوهم معه وتبع الباطنية فقتلوا وكان ذلك منتصف ذي القعدة سنة ست وعشرين لثمان عشرة سنة من خلافته‏.‏وكان كاتباً بليغاً شجاعاً قرماً‏.‏ولما قتل بمراغة كتب السلطان مسعود إلى بك أبه شحنة بغداد بأن يبايع لابنه فبويع ابنه الراشد أبو جعفر منصور بعهده إليه لثمانية أيام من مقتله وحضر بيعته جماعة من أولاد الخلفاء وأبو النجيب الواعظ‏.‏وأما إقبال خادم المسترشد فلما بلغه خبر الواقعة وكان مقيماً ببغداد كما قدمناه عبر إلى الجانب الغربي ولحق بتكريت ونزل على مجاهد الدين بهروز‏.‏